انبيكت لحواش / النداء الاخير / بقلم محمد ولد عمار

في عمق الصحراء، من مدينة انبكت لحواش التي تحمل في رمالها صمت الوطن وأوجاعه، أطلق رئيس الجمهورية خطابًا بدا كأنه صرخة من الضمير إلى الضمير، نداء يتجاوز السياسة إلى جوهر الدولة نفسها. لم يكن خطابًا روتينيًا، بل مرآة حقيقية لواقع مأزوم، وجرس إنذار يذكّرنا بأننا أمام لحظة مفصلية: إما أن نكون، أو لا نكون.
في كلماته ترددت أصداء أزمة وطن تتجاوز الاقتصاد والإدارة إلى عمق القيم والأخلاق. فالمشكلة لم تعد في نقص الموارد أو ضعف البنى التحتية، بل في انهيار المنظومة الأخلاقية التي تُبنى عليها الأوطان. إنها أزمة نخبة فقدت البوصلة، وأفراد اختزلوا الوطن في مصالحهم، ومسؤولين جعلوا من المنصب وجاهة لا رسالة.
لقد لامس الخطاب جرح الحقيقة:
نحن نسير في دائرة مفرغة، نكرر الأخطاء ذاتها بأسماء مختلفة، نرفع شعارات التغيير بينما نحافظ على نفس الذهنيات. فكم من مرة تحدثنا عن الإصلاح، وعن محاربة الفساد، وعن العدالة الاجتماعية… ثم عدنا إلى نقطة الصفر لأننا ببساطة نُغيّر الكلمات ولا نُغيّر السلوك.
إن ما قاله الرئيس هو نداء أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا. أراد أن يوقظ فينا الضمير الجمعي الذي تكلّس تحت رماد الولاءات الضيقة: حزبية وجهوية وطائفية وشرائحية. أراد أن يذكّرنا أن الدولة لا تُبنى بالتخندق، بل بالانتماء، وأن المواطنة ليست بطاقة تعريف، بل سلوك ومسؤولية وضمير.
الخطاب حمل رمزية عميقة؛ أن يُطلق من الهامش، من أطراف الوطن، يعني أن التغيير الحقيقي لا يأتي من القصور ولا من المكاتب المكيفة، بل من العمق الشعبي البسيط الصادق. من هناك حيث لا تزيّف اللغة ولا تُلمّع الحقائق.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن:
هل سنسمع النداء، أم سنواصل الصمم الذي اعتدناه؟
هل ستتحول هذه الصرخة إلى حراك وطني أخلاقي يُعيد ترتيب البيت الداخلي، أم ستُضاف إلى قائمة الخطب التي صفّقنا لها ونسيْناها بعد أيام؟
لقد أصبح التأثير في الساحة اليوم بيد من لا يملكون ثقافة ولا توجها ولا مشروعًا وطنيًا، بينما انسحب العقلاء إلى الظل، وتركوا المنابر لمن يجيد الصخب لا الفكر. إنها مفارقة موجعة تلخّص أزمة وطن بأكمله: حين يصبح الكلام بديلاً عن الفعل، والولاء بديلاً عن الكفاءة، والتهليل بديلاً عن النقد البنّاء.
إن النداء الأخير الذي خرج من انبكت لحواش ليس مجرد خطاب، بل وثيقة ضمير تدعونا جميعًا إلى مراجعة الذات قبل فوات الأوان.
فإما أن نستيقظ ونتصالح مع قيمنا،
أو نستمر في التيه حتى نفقد معنى الوطن ذاته.
لقد حان الوقت لنُدرك أن “نكون” لا تُبنى بالسياسات فقط، بل بالثقة، والنزاهة، وبالقدرة على قول الحقيقة في وجه المصلحة. فالوطن ليس شعارًا نرفعه حين نريد، بل عقد أخلاقي نبرّ به كل يوم.
نكون أو لا نكون… ليست عبارة بلاغية، بل مصير يُكتب الآن.
فلنكن إذن، قبل أن لا يبقى ما نكون من أجله.